أرشيف

فيلم «عمارة يعقوبيان» «نموذجا: صورة المثلي الجنسي» في السينما العربية حميد عقبي

تم طرح موضوع المثلية الجنسية في الأدب والرواية العربية بطرق عديدة في روايات نجيب محفوظ ويوسف ادريس وغادة السمان مثلا وفي السينما ظهرت شخصية المثلي بعدة افلام كشخصيات عابرة هامشية وثانوية وهي في اغلب الأحيان تحمل اسم دلع، لا يتم التوقف معها بشكل ايجابي واغلب الافلام العربية تربط الشخص المثلي رجلا كان او امرأة بمحيط فاسد وتكون تلك الشخصية منبوذة او ان يتم ربطها بانها نتاج تاثير خارجي وخصوصا بالثقافة الغربية وحصرها في محيط ابناء الطبقة البرجوازية وذلك للتدليل على ان المثلية الجنسية في العالم العربي جاءت اليه من الغرب وليس لها الوجود الحقيقي او الجذور الاجتماعية فيه، ولكن في السنوات الاخيرة ومع وجود الانترنت والنشر الالكتروني نجد مدونات ومواقع واخبار كثيرة تنشر بعض الاخبار عن المثلية الجنسية واصبحت ظاهرة البويات والجنس الثالث في الكثير من الدول العربية ظاهرة اجتماعية تجد اهتماما من المؤسسات الاجتماعية بالنظر اليها كظاهرة اجتماعية موجودة يجب عدم التهرب منها واقصائها.

في فيلم 'عمارة يعقوبيان' يظهر حاتم صحافي يدير صحيفة او مجلة فرنسية وهي شخصية تمتلك الامكانيات: شقة فاخرة ووضع اجتماعي بل لنقل مهني جيد ولكنه يخفي هويته الجنسية كمثلي، وهنا يمكننا ان نتوقف قليلا هل هذه الشخصية هي نموذج للمثلي؟

لو قلنا انه ليس شخصية مثلية فلدينا الحق كونه بارتباطه الجنسي مع شاب صعيدي هو عبد ربه لم تكن علاقة متكافئة بل كان عامل الاغراء المادي هو الوسيلة لكي يستطيع حاتم ممارسة الجنس مع عبد ربه والأخير لم يكن لديه اقتناع بهذا الفعل وهو يعيش في حالة صراع داخلي باعتبار ما يفعله مناف للدين ويغضب الله ولكنه يفعل ما يفعله تحت تاثير المشروب الروحي والاغراء المادي، في الجهة الاخرى حاتم لم نلمس منه مشاعر الحب أو احساس الصداقة بل كان يستثمر عبد ربه لينال الجنس فقط .

في السينما الغربية'والعالمية اصبح طرح موضوع المثلية مكررا ويُطرح بطرق عديدة ولا يعني وجود هذا الموضوع مشاهد جنسية بل قد يتم طرح القضية واظهار مشاعر الحب بين الشخصيات المثلية او التوافق الفكري والاجتماعي والروحي، وكثيرا ما تظهر الشخصية المثلية ايجابية ومحبوبة وعملية بل وانسانية وهي جزء من المجتمع والمحيط التي تعيش فيه لا تظهر معزولة او منبوذة باعتبار ان المثلية الجنسية خيار شخصي وطبيعي'ونموذج موجود يتم التعامل معه من الجميع وتظل اختيار الهوية الجنسية امرا شخصيا بحتا .

لم تكن المساحة التي خصصها فيلم 'عمارة يعقوبيان' لطرح هذه الشخصية او للسماح لهذه الشخصية بشرح قضيتها، فلم تكن الشخصية تؤمن بقضية المثلية الجنسية، بل كانت مجرد شخصية تبحث عن اللذة الجنسية وتستثمر حاجة الاخرين لمجرد الاشباع الجنسي. في بداية الفيلم يرفض حاتم موضوعا عن المثلية الجنسية في المجلة التي يديرها ونجده يخفي هويته الجنسية وحتى في الحوار بين حاتم وعبد ربه يسوق حاتم مبررات عادية وغير مقنعة بتجريم اي علاقات خارج اطار شرعي او اجتماعي بين رجل وامراة بينما يجيز العلاقات المثلية بين الرجال فقط وكانه لا يعترف بالعلاقات المثلية بين النساء لذلك يظهر كمريض وشاذ، في 'الفلاش باك' حينما يتذكر علاقته الأسرية'(ام تخون الزوج واب قاس وهو طفل يقع فريسة لاغتصاب احد الخدم) وهي مبررات تدينه وتصوره كشخصية شاذة وغير اخلاقية والتبرير لم يكن مقنعا.

الفيلم يعاقب عبد ربه بموت طفله بسبب الحمى باعتباره عقابا إلهيا بسبب فعله الشنيع حسب تصوير الفيلم لهذه العلاقة ويشعر حاتم بالندم ليس لفقد حبيب وصديق بل لفقد المتعة ولنقل أداة المتعة، يواصل حاتم البحث عن المتعة بالشوارع باستغلال شباب واغرائهم بالمال والمشروبات الروحية ويكون مصيره ونهايته الموت شنقا على يد احدهم، ولعل هذا الإجراء من المخرج للتخلص من هذه الشخصية وطي الموضوع ولا تاثير لغياب هذه الشخصية وموتها على الشخصيات الاخرى ولعلنا نجد ان هذه الشخصية لم تكن على ارتباط بالشخصيات الاخرى او المكان، ولو اننا مسحنا مشاهد هذه الشخصية فلن نجد ان لها تأثيرا على الفيلم ومساره الدرامي اي انها شخصية دخيلة ولم تكن شخصية حيوية ومؤثرة ولم تحمل الكثير من الافكار ولا علاقة لها بالاخرين ولم نجد انها مثلا لديها افكار او رؤية تطرحها في القضايا الاجتماعية او السياسية التي تم طرحها'، بالمقابل نجد اغلب الشخصيات لها راي معين تطرحه حول الواقع الذي تعيشه والمتغيرات الاجتماعية والسياسية ولكل شخصية هدف وحلم مشروع او غير مشروع، ما عدا شخصية حاتم وكانه يعيش مفصولا وهو شاذ ليس بفعله ولا هويته الجنسية'ولا نحس بانتمائه للبيئة والمحيط والمجتمع الذي يعيش فيه ولا علاقة تربطه بسكان العمارة او غيرها.

قدم الفيلم شخصية حاتم كشخصية مقززة وفاسدة وغير اخلاقية وهي مستغلة للاخرين لمجرد اشباع رغباتها الجنسية وليست'النموذج الصادق ولعل نهاية الشخصية كانت حكما قاسيا وشنيعا ولعل هذه النهاية ناتجة عن تاثيرات عديدة ومبرر لتمرير الشخصية بالفيلم وليس قناعة من صناع الفيلم بعرض شخصية مثلية كوننا لم نستطع ان نغوص بدواخلها ونقرأ افكارها، هي شخصية فارغة وتافهة بل ومقززة لا يمكننا ان نتعاطف معها او حتى نعيرها اهتمامنا وكاننا هنا امام درس او خطاب ديني وليست قراءة للواقع او محاولة للتوغل بواقع انساني به الكثير من المتناقضات والمتغيرات.

يمكننا ان نستنتج ان شخصية المثلي الجنسي الى اليوم لم يتم تقديمها في السينما العربية بشكل موضوعي او انساني، لعل هذا بسبب الخوف من المؤسسات الدينية التي تسيطر وتحكم مجتمعاتنا العربية وهي سلطة مهيمنة اصبح لديها قدرة على ادارة نواح حياتية متعددة ومقارعة هذه السلطة بها مخاطر كثيرة كونها لا تعترف بالفن ولا الفنان ولا تتيح له فرصة ان يعرض افكاره بحرية وهي على استعداد لقتله وسحقه، لذلك يهيمن الخوف ويسعى اي فنان لتفادي الصدام مع هذه المؤسسات بطرق غير مباشرة يعكس وجهة نظرها تجاه قضايا حساسة ويجاملها بطرح نهايات واحكام والمثال واضح جدا مع مشاهدتنا لفيلم 'عمارة يعقوبيان'.

في الكثير من الافلام العربية المنتجة خلال السنوات الاخيرة اصبح يتم طرح قضايا يقال انها شائكة واظهار مشاهد تسمى ساخنة تصور حدثا جنسيا، وخلال الكثير من اغاني الفيديو كليب اصبح رؤية فتاة ترقص شبه عارية كأمر عادي'، لكننا يمكننا ان نجد ان اظهار حدث جنسي في الكثير من الاحيان يكون مباشرا، وقليلة جدا هي المشاهد التي يمكننا ان نحس ان هناك اشتغالا على الجسد الانساني للمرأة او الرجل اي كيفية توليد وانتاج دلالات ورموز تحوي اسقاطات اجتماعية او سياسية او الاتجاه والنزوع نحو الفن التشكيلي من خلال التعامل مع الجسد العاري ، اغلب المشاهد الساخنة تكون لهدف جذب الجمهور وفي الكثير من الاحيان يحوي ملصق الفيلم او شريط الدعاية ايحاء بوجود مشاهد جنسية وخلال عرض الفيلم بالصالة قد تكون اقل سخونة.

في فيلم 'عمارة يعقوبيان' لم نجد الاشتغال على الجسد وخصوصا خلال مشاهد الجنس المثلي، وانا اميل الى ان الفن السينمائي فن الحذف اكثر منه فن للعرض ولكن هذا لا يجعل الكاميرا تتورع عن تحسس الجسد الانساني بطرق فنية للغوص في روح ودواخل الشخصيات، لعلنا هنا في هذا الفيلم كنا امام شخصية عبد ربه الريفي الصعيدي والذي كان يشعر بالندم لكن الكاميرا لم تقف امامه ليرى فيها نفسه ويعكس القلق والاضطراب باعتباره يمارس فعلا لم يكن مقتنعا به بسبب تاثيرات تربوية ودينية، وكان من الممكن الغوص في هذه الشخصية بشكل فني وربما لا يمكننا ان نطلق عليه شخصية مثلية كون ممارسته الجنس مع حاتم لم تكن عن قناعة او لذة او حتى ميول فالاخير كان يستغله ويغريه بالمال.

اغلب شخصيات الفيلم تعيش حالة من الضياع والاحباط والاضطراب الروحي بسبب الوضع المادي المزري او اللهاث وراء مزيد من الثراء والمال لكن حاتم ظهر بعيدا عن هذا الواقع وليس جزءا منه كون همه الوحيد كان اشباع رغبته الجنسية بالبحث عن شباب اقوياء، وفي اغلب الافلام العربية نرى ان الشخص ذي الميول المثلية شخص غير سوي ويمكننا ان نرى ذلك من خلال طريقة المشي والحديث والملبس، والفيلم قام بتقديم حاتم كشخص صحافي اي مثقف لكننا لم نحس انه يحمل اي ثقافة او فكر لذلك وجودها لم يكن ذو تأثير كبير وعدم وجودها او الغائها من الفيلم لن يكون له التاثير الكبير سواء كان سلبيا او ايجابيا.

نستطيع الاستنتاج ان شخصية المثلي الجنسي لم يتم تقديمها بشكل حقيقي كشخصية يمكننا الاحساس بها والتحاور معها وسماعها، ما زالت السينما العربية تكرر نمطا واحدا للمثلي الجنسي رجلا او امرأة ولا يوجد الى الان رؤية واضحة للغوص في قضية المثلية الجنسية باعتبارها قضية اجتماعية موجودة لا يمكننا ان ننكرها ويبدو ان الكثيرين يخافون من التوغل في هذا الموضوع ليس لعدم اهميته بل بسبب العواقب الوخيمة التي تهدد حياة اي فنان وتقضي على مستقبله الفني .

الفن اكثر عمقا وفهما لمشكلات الانسان النفسية والروحية من الدين وهو لا يفرق ولا يمارس العنصرية ضد الانسان بغض النظر عن اللون او الجنس او الهوية الجنسية او المعتقد وهو قادر على الاجابة واثارة الجدل حول مسائل وقضايا ميتافيزيقية وحياتية واقعية وعلى الفنان التحرر من الخوف كي يكون صادقا وواقعيا بل وانسانيا.

سينمائي من اليمن

[email protected]

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى